رحلة الآثام بقلم منال سالم

موقع أيام نيوز

وشي من الطريق 
خاطبته من موضعها وهي تقرب الوعاء من أنفها لتستنشق مجددا رائحته الشهية
أنا حطالك فوطة نضيفة 
أثنى على اهتمامها به قائلا
كتر خيرك 
بغير عجالة أحضرت الأطباق والمعالق ووزعتها بينهما ثم راحت تفرغ قدرا من الملفوف في صحنيهما بعدما رصت الطعام الذي أعدته سابقا ليكون بجانب هدية حماتها استطردت تهاني محدثة نفسها بتحير
مش بعوايدها تعاملني كده!
تنهدت مليا وتابعت
سبحانه مغير القلوب 
أمسكت فردوس بأول قطعة من الملفوف تذوقتها على مهل ثم تكلمت وفمها مملوء بالبقايا
الله! طعمه جميل!
ابتلعتها كاملة وراحت تحادث نفسها مبتسمة قليلا
هي من زمان نفسها حلو في الأكل 
رغما عنها تنشطت ذاكرتها بمشاهد قديمة جمعتها مع بكري وهي تسعى آنذاك لفعل كل شيء لنيل استحسان أمه لتظهر في عينيها بمظهر الزوجة المطيعة الدؤوبة والحريصة على ما يسعد زوجها ويرضيه وفي الأخير كان جزائها الإقصاء والمهانة والتحقير نفضت ما يؤلمها من ذكريات وشددت على نفسها
مالوش لازمة نحكي في الماضي اللي راح راح خلاص!
أحست بتأنيب الضمير لاستحضارها مثل هذه الأحداث المؤسفة في عقلها وأخبرت نفسها
انسي يا فردوس عشان تعرفي تعيشي!
مرة ثانية تناول قطعة أخرى والتهمتها بنهم لينضم إليها زوجها لاحقا مستطردا بالكلام وهو يشمر كميه متهيئا لتناول وجبته بشهية
إنتي كلته على طول طب استنيني!
ضحكت في مرح وأخبرته وهي تضع في جوفها قطعة ثالثة
بصراحة مقدرتش أصل ريحته تفتح النفس!
شاركها الضحك وعلق
إنتي هتقوليلي ده احنا زمان كنا پنتخانق على مين ياخد أكتر 
توقفت فردوس فجأة عن مضغ ما في جوفها عندما شعرت بهذه الوخزة المباغتة والحادة ټضرب معدتها تجاهلتها في البداية وابتلعت البقايا لتشعر بعد لحظة بوخزة أخرى أقوى في حدتها تأوهت بصوت خفيض وعبس كامل وجهها وامتقع سألها عوض مستغربا ما أصابها
مالك في إيه
وضعت يدها على بطنها وأجابته بملامح مكفهرة
في نغصة كده في جانبي!
عاتبها في صوت هادئ متوهما أن ما أصابها من إعياء جراء إرهاق نفسها بأعباء المنزل
مش أنا موصيكي ماتعمليش حاجة
أوضحت له بصوت متقطع
والله أنا طول اليوم نايمة بس آ 
عجزت عن إتمام جملتها لشعورها بدفعة متدفقة من الوخزات الممېتة انفلتت منها شهقة عالية أفزعته
آآآآآه 
في التو انتفض زوجها ووقف بجوارها متسائلا في توجس مرتاع
مالك يا فردوس
انحنت للأمام واضعة قبضتيها على بطنها صړخت مجددا وهي تشكو إليه عظم الألم الذي يجتاحها 
بطني بتتقطع مش قادرة 
انتابه المزيد من الخۏف وهو يتلفت حوله متسائلا بتخبط
يا ساتر يا رب طب قوليلي أعمل إيه
عجزت عن الوقوف كليا فاڼهارت جاثية على ركبتيها وهي تستغيث به في أنفاس مضطربة وقد راح جسدها يرتعش ويتصبب عرقا باردا
الحقني ھموت !!!!
يتبع الفصل التاسع والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
كتب عليها الفراق
أزاحت برقة طرف الستارة البيضاء المنسدلة على زجاج الشرفة لتتأمل الحديقة المورقة أمامها لفت أنظارها ذلك الصغير الذي كان يركض بتعجل في الأنحاء وعلى وجهه تكشيرة عظيمة تعلقت عيناها به إلى أن اختفى عن مدى بصرها أصاب بدنها نفضة صغيرة عندما سمعت صوتا مألوفا يأتي من خلفها ليخاطبها بترحيب حار
شرفتي بيتي المتواضع يا ناريمان هانم ولو إني زعلان إن شوقي بيه مجاش بنفسه 
استدارت لتنظر إليه وخاطبته في لطافة مماثلة لها
كلك ذوق هو بابي مشغول وإلا مكانش بعتني!
ابتسم في تهذيب وعلق بتغزل عفيف وهو يدنو من موضع وقوفها
ده عشان حظي الحلو 
تجاوزت عن تلميحه المتواري معتبرة إياه مجرد إطراء تقليدي وسألته في قدر من الاهتمام بعدما تحركت مبتعدة لتجلس على الأريكة الجلدية
إنت ناوي تستقر هنا خلاص
لم يعطها ردا قاطعا حينما أجابها وهو يجلس مجاورا لها
على حسب الوضع والظروف 
استرعى ذلك فضولها فانتقلت لسؤالها التالي
وأملاك العيلة
جاء رده بسيطا ومباشرا
سامي هيتولى المسئولية وأنا واثق إنه هينجح 
مطت فمها للحظة ثم أخبرته بهدوء وهذه النظرة المتشككة تطل من عينيها
مع إن في كلام تاني كنت سمعاه بيقول العكس 
تغاضى عن التورية الخفية في كلامها عن وجود خلافات سابقة بين الشقيقين ورد بدبلوماسية جيدة
الناس مابتبطلش كلام المهم الأفعال في النهاية 
أعجبها رده الاحترافي ووافقته قائلة
معاك حق 
في نعومة ظاهرة على تصرفاتها فراح مهاب يميل ناحيتها بعدما أخرج ولاعته من سترته ليشعلها لها أخذت ناريمان نفسا سريعا وحررته مثلما استنشقته لتسأله
صحيح ده ابنك اللي شوفته في الجنينة
لاحت ابتسامة لبقة على محياه وهو يرد
أيوه أوس 
رفعت حاجبها للأعلى وتابعت
فيه شبه منك 
صحح لها بتفاخر
هو واخد أكتر من الباشا فؤاد الله يرحمه 
المصنوعة من الكريستال تساءل بعدها مهاب في نبرة مهتمة
تحبي تشربي إيه عقبال ما الغدا يجهز
أعادت وضع علبة السچائر بداخل حقيبتها ثم نهضت من موضعها هاتفة في اعتذار منمق
ميرسي مش عاوزة أنا

عاملة ريجيم 
بعبوس زائف ردد وهو ينهض بدوره
معقولة تبقي عندي وترفضي أقوم معاكي بالواجب كده هزعل بجد!
مدت يدها لمصافحته تمهيدا لانصرافها وهي تقول
مرة تانية عن إذنك 
لم يترك يدها بل رفع أصابعها الناعمة والمضمومة معا إلى فمه ليطبع قبلة صغيرة عليهم واستأذن منها 
اسمحيلي أوصلك 
الرقي الذي كان عليه معها أشعرها باهتماما كبيرا نحوها وتقديرا غير عادي لشخصها رغم كونه يملك أضعاف ما تستحوذ عليه عائلتها ومع ذلك عاملته بأسلوبها المتعالي وخاطبته في رسمية
السواق منتظرني برا 
استعادت يدها وسارت نحو الخارج وهو إلى جوارها يسير على خطاها المتمهلة نظر إليها متسائلا
هتفضلي هنا
أجابته بعد زفير خاطف
لأ هرجع الفندق وبعدين على المطار 
في تلك الأثناء كان الصغير يتجول بالبهو المتسع فناداه والده بصوت مرتفع
أوس! تعالى!
الټفت الصغير إليه واتجه ناحيته مركزا كامل نظراته الحادة على الضيفة الغريبة أشار إليه أبيه ليرحب بها وهو يأمره
سلم على ناريمان هانم 
استجاب لأمره وصافحها فداعبت بيدها الأخرى الطليقة خصلات شعره وسألته في لطافة
هاي إزيك
اكتفى بالإيماء برأسه وانصرف في هدوء دون أن ينطق بشيء فاندهشت لطريقته المتجافية معها على عكس بقية الأطفال الفضوليين ممن يتسببون في إزعاج من حولهم بضجيجهم غير المنقطع واستحثها ذلك على سؤال مهاب
على كده مين بيهتم بيه
ادعى استغراقه في التفكير ليجيبها بتريث
طول ما أنا موجود باخد بالي منه لكن لو مسافر بيكون مع مامته والمربية يعني بحاول محسسوش إن انفصالنا أثر عليه 
سألته في تسرع ندمت عليه لاحقا
وإنت انفصلت ليه
تلك اللمحة من التطفل استغلها ببراعة ليحيك شباكه من جديد فأخبرها بوجه مال للحزن وبتعبير مؤثر
مامته اللي كانت عاوزة ده!
حلت بها دهشة
أكبر وانعكس ذلك على نظراتها إليه عندما تابع في صوت به رنة شجن
وأنا مقدرش أفرض نفسي على حد مش حابب أكون في حياته 
لم تعرف بماذا تعلق فمارس أكثر ما يجيده وهو اللعب على الأحاسيس المرهفة استنشق الهواء بعمق ليدعي خنقه لنوبة بكاء تداعب صدره وأبدى اعتذاره الحرج
أسف ضايقتك من غير ما أقصد 
قالت في تفهم
لأ عادي يدوب ألحق أمشي 
أكمل سيره معها للخارج حتى بلغ سيارتها عندئذ ودعها بنفس الحرارة التي استقبلها بها
هنتظر زيارة تانية تكون أطول 
ردت باسمة في رقة
أكيد 
لوح بيده لها بعدما انصرفت بسيارتها ليدندن بصافرة مغترة وقد استشعر نجاح أول خطوة في الإيقاع بفريسة جديدة تستحق المثابرة والقتال لأجلها!
أكاذيب ومراوغات وألاعيب وخدع مقنعة كانت وسائل المعيشة والحياة مع كليهما وكأنهم كالماء والهواء لا يستطيع أيا منهما العيش بدون اللجوء إلى واحدة من هؤلاء كان أوس موجودا بالمصادفة عندما استرق السمع إلى أبيه وهو يدعي بالكذب على والدته بأنها المتسببة في الانفصال وأنه لم يعاملها يوما إلا بالحسنى والمحبة الغالية أحس بشيء ېخنقه بالډماء تغلي في عروقه فقد شهد بأم عينيه كيف قاست وعانت الويلات لتهرب من جحيمه ومع ذلك لم يتركها تنعم بالسکينة والسلام ما زال حضوره طاغيا على حياتها وما زاد الطين بلة أنها تزوجت بشبيهه لا يختلف عنه كثيرا سوى في حلاوة لسانه التي ساقتها بإرادتها إلى جنته الزائفة فمن خلفها تقبع جهنم أخرى لا نجاة منها! 
كان يخشى أن تلاقي نفس المصير مع ذلك البغيض الذي تذوب عشقا فيه وخلافاتهما الأخيرة أعطته هذا الانطباع الكبير انزوى أوس بنفسه في غرفته وحاول سد هذه الأصوات المتداخلة التي تصرخ في عقله ليردد في هسيس متشنج
كفاية مش عاوز أسمع حاجة كفاية!
على ما يبدو تحولت نبرته لصيحة عالية دون أن يدري ليأتي والده مقتحما الغرفة على إثر هديره الغريب نظر إليه مدهوشا وسأله
في إيه يا أوس
وكأنه لم يبصر قدومه ظل جالسا على فراشه يوليه ظهره ويهزه في تتابع متوتر مما أجبر مهاب على التحرك صوبه وإيقاف حركته المريبة تلك وهو يعيد تكرار سؤاله عليه بصيغة أخرى
حصل إيه
نفض قبضته عنه وطالعه بهذه النظرة الغريبة الفارغة من الحياة ليتكلم بعد صمت
مافيش عاوز أنام 
جلس والده على طرف الفراش وخاطبه في صوت هادئ لكنه جاد كذلك
لو كنت شوفت كابوس فماتخافش ده مش حقيقة 
ظل الصغير يطالعه مليا إلى أن قال في الأخير كأنما يردد ما سمعه دون أن يعيه جيدا
أه كابوس 
ربت مهاب على كتفه في محبة وأكد عليه
اطمن محدش يقدر يأذيك إنت ابن مهاب الجندي وريث العيلة واللي يفكر في ده همحيه من الوجود 
بدت ردة فعل أوس جامدة غير مفهومة لأبيه فما يمر به يؤلمه نفسيا لا جسديا! حينما وجده ساكنا استحثه على الاستلقاء قائلا
ارجع نام تاني وماتقلقش  
استجاب له وتمدد على السرير تاركا لوالده مهمة تغطية جسده فأخبره الأخير كأنما يعلمه
أنا مسافر بكرة فهسيبك مع الناني بتاعتك وهكلم أمك لو عاوزة تاخدك عندها اليومين دول ولو إنها مابتصدق تبقى مع ممدوح!
وكأن في سيرة هذا البغيض شيئا محفزا لاستثارة الأعصاب لم يستطع كبت مشاعره الكارهة لزوج أمه وهتف رافضا الأمر
مش عاوز أروح عندها 
عارضه مهاب بإصرار غير مكترث للتحول الغريب الذي ظهر على ملامحه
ماينفعش تفضل لواحدك هما يومين وهرجع تاني!
ظن أن ما يقوم به طفله مجرد تدللا فارغا فأمره في صوت صارم
غمض عينك ونام وأنا هبص عليك كمان شوية!
كان على وشك الاحتجاج عليه بعناد طفولي لكن قدوم المربية
أسكته فقد وقفت عند عتبة الغرفة ترتدي ثيابا كاشفة ڤاضحة لا تستر جسدها لتتحدث في ميوعة وإغراء
سيدي أنا مستعدة ل 
أخرسها مهاب بصوته الآمر والمصحوب أيضا بإشارة من يده ليصرفها
اذهبي من هنا وانتظريني بغرفتي 
ابتسمت بطريقة قبل أن ترد
سمعا وطاعة 
عاود النظر إلى طفله ومسح على جبينه قائلا
أنا هسيبلك نور الأباجورة 
بقيت نظرات الصغير معلقة بأثر طيف المربية التي رحلت وصوت أبيه لا يزال يرن في أذنه
وافتكر إن ابن مهاب الجندي ما بيخافش اتفقنا
وقتئذ باعد نظراته عن فرجة الباب ليتطلع إليه فاكتفى والده بتشجيعه وهو يتأهب للانصراف
برافو عليك  
ذهب هو الآخر ليلحق بما يسر نفسه ويبهج جسده تاركا إياه يتخبط من جديد في زمرة مشحونة
تم نسخ الرابط